الطا جن وصل..!
كانت المشكلة الّتى تشغلنا أكثر ممّايشغلنا عملنا هي مسألة الطعام, و هل فى ذلك عجب؟.. إن الطعام هو مشكلة الأمس واليوم والغد.. وهو الّذى تقوم من أجله الحروب!.. وتعقد من أجله المؤتمرات..على أن مشكلتنا كانت أعوَص من أى مسألة طرحت على موائد البحث.. لأنّها لم تكن متعلقة بالطعام ذاته.. بل بطهو الطعام..
ولقد طرحنا وجوهنا على موائد الأكل, حتّى إنتهى بنا الأمر إلى قبول الواقع بغير بحث..
كنا ثلاثة- منذ عهد بعيد طبعًا- نقطن مسكنًا فى مدينة دمنهور:
- قاضى البندر, ووكيل نيابتها- وهو أنا ولافخر- ثمّ قاضى إيتاى البارود... وكانت النفقة بيننا بالثلث فى كل شيء.. وكان زميلاى متزوجين, ولها بيتاهما في القاهرة... ولكن ضرورة العمل و نظام الجلسات.. اللذين يقتضيان بعدهماعن بيتهيهما في العاصمة أربعة أيام في الأسبوع, فرضا عليهما هذه التكاليف الإقتصاد.. وأدى بهما خوفهما من ترك الحبل على الغارب, أن قررا وضع نظام لشئون مسكننا, يماثل نظام الجلسة القضائية فى محاكم الإستئناف, أى أن يكون الحكم للأغلبية.. فأنا مثلا لا أستطيع أن أنفرد باقتراح لون من ألوان الطعام الاّ أن يؤيدنى واحد منهما.. هكذاالحال مع الجميع.. و كان لنا خادم يقوم على خدمتنا, ولكنه لا يفقه شيئا فى طهو الطعام.. وكان ضئيل المرتب, فحكمت الأغلبية ببقائه مع عدم الإعتراض على ما يقدمه ويسميه مأكولا.. حتىّ جاء الفرج ذات يوم فى صورة اقتراح تقدم به ((حاجب الجلسة)) الّذى رثى لحانا.. فقال أعزه الله:
- إذا شئتم ياأصحاب السعادة فإنّ امرأتى تعد لكم الطعام فى دارنا كل يوم وأحمله إليكم ساعة الغداء..
فواقفت الأغلبية, على شرط أن يكون الطعام ممّا يطعهى فى الفرن لنضمن البساطة و النظافة..
منذ ذلك اليوم و نحن لا نأكل إلاّ فى ((طاجن)) من فخار أحمر.. قد أسود من القدم والدخان ((وهباب)) الفرن.. تلقى لنا فيه امرأة الحاجب قدرا من اللحم.. يتناقص مع الأيام دون أن تنقص النقود.. فلا يكاد يكفى بطوننا.. و فيها بطن قاضى إيتاى, وهو رجل عربى الأصل سليل قبيلة من قبائل البدو, يضرب بلقمته قاع الطاجن, فإذا أضخم اللحم و أطيبه قد وقع له.. ولا يقوم من المائدة حتى يمسح قعر الوعاء بآخر كسرة, و نحن نصيح فيه:
- إترك شيئًا لغداء الخادم!..
- غداؤه على الله.. إن الله لا يترك مظلوما!..
يقول وينهض عن الخوان يجرع من ((القلة)) ويتجشأ... وصرنا منذ ذلك الحين لا نسمى خادمنا باسمه.. بل أطلقتنا عليه اسم ((المظلوم)).. وجعلنا لا نناديه إلا بقولنا:
((هات يا مظلوم كوب ماء))... ((إمسح يا مظلوم الحذاء!..)) وهلم جر!..
و كان يسمعنا أحيانا بعض الزوار من الأصدقاء, ونحن ننادى خادمنا بهذاالوصف... فيتساءلون دهشين:
- أيوجد مظلوم بينكم؟.. وأنتم كلكم رمزالعدالة؟!..
فيقول قاضى إيتاى البارود ببديهته الحاضرة:
- حيث توجد العدالة يوجد الظلم!..
وكان قاضى إيتاى يمضى إلى جلسته بقطار الصباح الباكر ويعود بقطار الساعة الواحدة ظهرا.. وهو يحرص على إنهاء جلسته فى هذا الميعاد ليلحق بهذاالقطار.. لأنّه إذا فا ته فلن يجد أمامه غير قطار يصل إلى دمنهور فى منتصف الثالثة, والمجئ به, لا قدر الله, معناه المجئ بعد الغداء وفراغ الطاجن و إنصاف ((المظلوم))!!
وكنا نحن من جانبنا: أنا و قاضى البندر- وعملنا متحد فى جلسات الجنح.. والجلسة تتشكل منه ومنى- نحرص على إنهاء الجلسة قبيل موعد حضور القطار القادم من إيتاى البرود, فقد تشاء أحيانا المصادفة السيئة أن يتم إنضاج الطاجن فى الساعة الواحدة.. وأن يسبقنا إليه قاضى إيتاى... فإذا حدث هذا ويصبغ لنا والعياذ بالله, فنحن أمام كارثة لانستطيع لها دفعا ولا ردًا..
أخذتنا ذات مرة حماسة العمل وكثرة القضايا المعروضة على المحكمة.. فنسينا الوقت فنسينا أنفسنا, وإذا حاجب الجلسة ينظر فى ساعته ويقبل مسرعا يهمس بقرب المنصة:
- الطاجن وصل البيت من بدرى.. وقطر إيتاى البارود وصل المحطة من زمان!..
- راح الغداء وعلينا العفاء..
لفظها القاضى يائسا ثمّ نظر ألىّ قائلا بصوت مرتفع:
- مارأى النيابة؟
- النيابة فوضت الرأى للمحكمة..
- ترفع الجلسة للإستراحة.. على أن تعقد فى الساعة الخامسة بعد الظهر!..
ونهض من كرسيه يخلع وسامه الأحمر.. وأنافى أثره أخلع وسامى الأحمر الأخضر.. ووثبنا إلى قاعة المداولة نطرح فيها ملفاتنا.. وخرجنا إلى عرض الطريق راكضين ونحن نقول:
- بانلحق الطاجن.. يا منلحقهوش!..
***
لبثنا على هذا الحال زمناً... لاطعام لنا إلاّ طاجن البطاطس فى الفرن.. حتى عاد قاضى البندر من القاهرة ذات يوم يقول لنا.. وكأنها ينبهنا من غفلة:
- يا لعجب أمرنا..! حتى مجرد الذوق كدنا نفقده!.. ذكرت لزوجتى عرضا مسألة الطاجن.. فدهشت وقالت:((ألا توجد عندكم صينية؟ هل يوجد ألذ من صينية البطاطس فى الفرن!ّ.. دعكم من هذا الطاجن وجربواالصينية ياناس؟..))
فصحنا بزميلنا الطموح:
- ومن أين لنا الصينية؟
- نشتريها..
- أنا لا أدفع أكثر من عشرة قروش!..
قالها إيتاى وهو يخرج نصيبه من جيبه قطعة فضية...
وأخذنا الأصوات.. فأقرت الأغليبة المواقفة على شراء الصينية على شراط أن لا يتجاوز ثمنها ثلاثين قرشا.. وبادرنا فأفضينا برغبتنا إلى حاجب الجلسة... فهرش رأسه ثمّ قال: صينية نحاس ب((ثلاثين قرش))؟..
مستحيل!.. أقل من خمسين أو ستين ((قرش))..
- هذا جنون!.. ستين ((قرش))!.. لا.. لا داعى أبدًا فلنبق على الطاجن إلى آخر الدهر!.. قلنا جميعا بصوت واحد, و أقفل باب المنقشة فى هذاالشأن... وانتقلنا إلى جدول الأعمال.. ومضى كل منا إلى عمله.. قاضى إيتاى ركب القطار إلى محكمته.. وأنا و قاضى البدر ذهبنا إلى محكمتنا حيث تنتظرنا أكداس المخالفات والجنح.. وظلّ حاجب المحكمة بباب الجلسة ينادى على القضايا.. وظلت القضايا تتوالى أمامنا, والأحكام تترى من فم المحكمة كأنّها طلقات مدفع حتى عرضت علينا قضية رجل إتهم بأنّه ضرب زوجته بعصا فأحدث بها إصابات اقتضت علاجا أقل من عشرين يوما.. فما كاد الرجل يمثل أمام المنصة, حتى نهض محام يقول:
- حاضر مع المتهم..
وكانت الساعة قد إقتربت من الواحدة.. فالتفت إلىّ القاضى, و فى عينيه نظرة فهمت معناها.. فأنا أيضا كان يجول فى خاطرى عين المعنى.. محام الآن؟.. ومرافعة بإسهاب وبيان؟!... مامن شيء بالطبع يستعجل هذاالمحامى وما من خطر يهدد غداءه.. فإنّ الله لم يبتله بقاضى إيتاى.. وبادرت المحكمة تسأل المتهم بسرعة:
- إسمك؟
- محمد عبد الغيث شمروخ..
وأراد المحامى أن يتظرف فقال:
- أسمه ((شمروخ)) ولكن الضرب حصل بعصا رفيعة!..
فلم يبد على المحكمة التفات إلى ذلك المحامى ((الرفيق)).. وجعل القاضى يقلب فى أوراق الملف ويبحث عن التقرير الطبى.. وهو يتابع أسئلته بصوت آلى..
- عمرك؟..
- حوالى خمس وثلاثون سنة..
- صناعتك؟..
- صانع صوانى نحاس؟..
وهنا حدث إنقلاب فى هيئة المحكمة.. فقد ترك القاضى الملف ورفع رأسه ناظرًا إلى المتهم باهتمام.. وكذلك فعلت النيابة.. وأقبل القاضى على المتهم يسأل بعناية:
- صوانى نحاس
Sedang diterjemahkan, harap tunggu..
